أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم




أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم

 

تمثلت في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمى مكارم الأخلاق، وتجمعت فيه كل الصفات الحميدة، فتعلق الناس به، وتركوا في حبه كل ما كان يربطهم بحياة الجاهلية الأولى، ولذا أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بما لم يثن على نبي من أنبيائه، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [1].


وهذه بعض الصفات التي امتاز بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقربته إلى القلوب، نوجزها فيما يلي:

كرم النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد كان كرم النبي صلى الله عليه وسلم لوناً جديداً لم يعرفه العرب، ولم يألفه غيرهم، فلم يكن كرمه لكسب َمحمَدة أو اتقاء منقصة، ولم يكن للمباهاة أو الاستقلال، أو لاجتلاب المادحين، بل كان في سبيل الله وابتغاء مرضاته، كان في حماية الدين، وفي مؤازرة الدعوة، وفي محاربة الذين يصدون عن سبيل الله، فهو يعطى أحوج ما يكون إلى ما يعطيه، ويبذل الكثير وهو محتاج إلى القليل، وكان ينفق في سبيل الله ما استطاع أن ينفق، وهو يستقل ما أنفق، وكان يعطى العطاء الجزيل، فلا يستكثر ما أعطى، وما سئل عن شيء قط إلا أعطاه، وكان يستحى أن يرد سائله خالي اليدين.


أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله، فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة [2].

وحمل إليه صلى الله عليه وسلم تسعون ألف درهم، فوضعها على حصير، ثم قام فقسمها فما رد سائل حتى فرغ منها[3].

 

صدق النبي صلى الله عليه وسلم:

فهو صلى الله عليه وسلم صادق مع ربه، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، صادق مع أهله، صادق مع أعدائه، فلو كان الصدق رجلاً لكان محمداً صلى الله عليه وسلم، وهل يُتعلم الصدق إلا منه صلى الله عليه وسلم وهل ينقل الصدق إلا عنه صلى الله عليه وسلم فهو الصادق الأمين في الجاهلية والإسلام، أجمع الذين عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وخالطوه منذ صباه على أنه صادق أمين، لم يسمعوا من فمه أكذوبة قط، ولم يشكوا في خبر من أخباره، أو يستريبوا في قول من أقواله، لكن قريشاً التي وثقت واطمأنت إلى صدقه في صلاتها به ومخالطتها له، ناقضت نفسها، فكذبت نبوته وأنكرت رسالته، فلو أن الذين كذبوه احتكموا إلى ثقتهم به وتجاربهم معه، لعلموا أن الذى يصدقهم الأحاديث والأقوال لا يستطيع أن يكذب على الله[4].


ولو أنهم كشفوا عن قلوبهم ما ران عليها من حجب العناد والضلال، والحرص على منافع الدنيا وشهواتها، لأيقنوا أن النبي يدعوهم إلى الحق والخير وفق ما تقتضيه الفطرة الصحيحة والعقل السليم[5]، لكنهم عموا عن هذا كله، وعموا عن البينات الدالة على صدق الرسول، وأصروا على تكذيب نبوته، وإنكار رسالته، لكن أحداً لم يستطيع وصفه بالكذب، فلو أنه كان كاذباً ما احتمل في دعوته أفدح المخاطر وأقسى الشدائد، وهو لم يجن من وراء دعوته ما يجنيه أصحاب الدعاوى من رغد وثراء وسلطان، ولو أنه كان كاذباً كما يدعون لآثر على دعواه الرضا بما عرضه عليه قومه من المال والملك، حينما يئسوا من تراجعه عن الدعوة إلى الإسلام الذى يسفه عقولهم ويلغى أديانهم، ويبطل كثيراً من عاداتهم ومعتقداتهم، ويهدد مصالحهم الشخصية بالزوال، ولم لم يكن صادقاً لأقام نفسه ملكاً على الجزيرة العربية بعد أن دانت له، وبعد أن وافته القبائل لتعلن إسلامها، وتدين له بالولاء، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا، وقد كان ميسورا عليه، بل آثر أن يقضى حياته زاهداً مبغضاً لمظاهر الجاه والسلطان، ولذلك فإن زعماء قريش الذين تولوا معارضة الدعوة لم يلبثوا أن آمنوا بها، وأشربتها نفوسهم، وكافحوا دونها بدمائهم وأموالهم، لأنهم أيقنوا أن محمداً الذي لم يكذب عليهم قط، لم يكذب على الله قط، وليس بصاحب بهتان، ولا طالب مال أو جاه [6].

 

صبر النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على الأذى، وكان حظه من البلاء هو النصيب الأوفر، فقد قضى ثلاثاً وعشرين سنة، يدعوا إلى التوحيد الخالص عبدة الأوثان واليهود والنصارى، دعوة قوية لا يخفت صوتها، ولا ينقطع صداها، وهم يجدون في هذه الدعوة تسفيها لعقولهم ولآلهتهم، وتقويضاً لسلطانهم ونفوذهم ونظمهم، فيحشدون قواهم لوأدها، أو لتعويق انتشارها، فلا يزداد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا حماسة لدعوته وإصراراً عليها، وكلما أمعنوا في إيذائهم له، احتمله في ثبات وجلد وصبر، حتى صار أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وأقبل المشركون على دين الله أفواجاً يحملون شعاره، ويفدونه بأغلى ما يفتدى به عزيز. فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر ﴿ فَاصْبِرْ عَلَىمَا يَقُولُونَ ﴾ ، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر﴿ فَاصْبِرْ كَمَاصَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾

 

عدل النبي صلى الله عليه وسلم:

كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الناس، فقد استقى عدله من التربية الإلهية، والأخلاق القرآنية، فكانت فطرته السليمة مهيأة للعدل منذ شبابه، وكيف لا وهو المبلغ للشريعة، والمنفذ لها، وهو القاضي الأول الذي يطمئن المسلمون إلى أحكامه، ويقتدون بها، فمن يعدل إذا هو لم يعدل؟ إن عدل رسول الله وسع القريب والبعيد، والصديق والعدوّ، والمؤمن والكافر، عدلٌ يزن بالحقّ ويقيم القسط، بل ويحفظ حقوق البهائم والحيوانات، إلى درجة أن يطلب من الآخرين أنيقتصّوا منه خشية أن يكون قد لحقهم حيفٌ أو أذى، وهو أبلغ ما يكون من صور العدلوفي ظلال المنهج العادل للنبي صلى الله عليه وسلم عادت الحقوق إلى أصحابها وعلم كل امرئ ما له وما عليه، وشعر الناس مسلمهم وكافرهم بنزاهة القضاء وعدالةا لأحكام، بعد أن وضع صلى الله عليه وسلم نظاماً رفيعاً وسنّة ماضية تقيم الحقّ وتقضي بالعدل، منهجٌ فيه النصرة للمظلوم، والقهر للظالم الغشوم، فلا الفقير يخشى من فوات حقّه، ولا الغني يطمع في الحصول على ما ليس له، ولا الشافعون يطمعون فيدرء حدٍّ من حدود الله تعالى.


فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قِدحُ يعدل به القوم، فمر بسواد بن غُزَيَّة وهو ناتئ من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق، فأقدني[7]، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد يا سواد، فعانقه سواد، وقبل بطنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فلم آمن القتل فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير[8].


وتلك امرأة مخزومية سرقت، فأحزن قريشاً شأنها، فقالوا ومن يكلم فيها رسول الله؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبيبه؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب، وجاء في خطبته قوله: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محـمد سـرقت لقطع محمد يدها[9]. وخوفاً من تفويت حقوق البعض لاسيما في القضاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض[10]، فمن قضيت لهبحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها "[11].

 

عفو النبي صلى الله عليه وسلم:

ما أعظم عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعداء، فقد مثل عفو الإسلام خير تمثيل، وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، وإنما هي نابعة من روح تعميم العدالة على الجميع. فقد اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، إذ قتل عمه حمزة رضى الله عنه ومثل بجسده الشريف، وقتل العشرات من المسلمين، فتقدم بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واقترحوا عليه أن يدعوا على المشركين ليعذبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذب المشركين الأولين بدعوة أنبيائهم عليهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن ذلك وقال: إني لم ابعث لعاناً ولكن بعثت داعياً ورحمة[12].


وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والبردة على كتفيه صلى الله عليه وسلم فجذب الأعرابي أطراف الرداء جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البردة في صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بخشونة بالغة: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا من مال ابيك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم برهة ثم قال: المال مال الله وأنا عبده ثم قال: ويقتص منك يا أعرابي ما فعلت بي، قال لا فقال صلى الله عليه وسلم: ولم؟ قال: لأنك تعفو وتصفح ولا تكافئ بالسيئة الحسنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر[13].


ومن عظيم عفوه صلى الله عليه وسلم معاملته مع أهل مكة، أهل الشرك والكفر، الذين قتلوا أصحابه، وأنصاره، وأقرباؤه في عشرات الحروب والذين أخرجوه صلى الله عليه وسلم من مسقط رأسه الشريف، وبلد الله وبلد آبائه، والذين عذبوا المهاجرين بأنواع التعذيب وقتلوا العديد منهم، والذين تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم عدة مرات، والذين مارسوا معه صلى الله عليه وسلم وأنصاره كل أنواع المظالم، هؤلاء جميعهم، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً منتصراً عليهم، حياتهم كلها رهن كلمة ينطق بها، ومع هذا نظر إليهم نظرة كلها عفو ورحمة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

 

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:

لا تكفي المجدات الكبيرة، للحديث عن رحمته صلى الله عليه وسلم إنما نحتاج حقيقة إلى أعمار وأعمار للاطلاع على مظاهر رحمته ولتقدير مدى عظمة رحمته، ويكفي أن نذكر أن الذي شهد له بعظم هذه الرحمة ليس من عاصره أو من سمع عنه فقط، بل شهد بها رب العزة تبارك وتعالى، وجعل هذه الشهادة محفوظة في كتابه العظيم: القرآن الكريم، يتذكرها المسلمون دوما كلَّما قرؤوا الكتاب العظيم وذلك إلى يوم الدين.. قال تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [14] لقد كانت رحمته صلى الله عليه وسلم رحمة عجيبة، فقد شملت الرجال والنساء، الأقوياء والضعفاء، الأصحاء والمرضى الأغنياء والفقراء، الخدم والرقيق، الإنسان والحيوان، اليهود والنصارى، حتى أنها شملت قوما خالفوا منهجه، وأنكروا الرسالة، ورفضوا النبوة، وعبدوا غير الله تعالى! إنَّ هذه الرحمة لخير دليل على أنه كان رحمة للعالمين، بالمفهوم الشامل الواسع لكلمة ﴿ العالمين ﴾. قال تعالى: ﴿ وماَ أرْسْلناكَ إلَّا رحمًة للْعاَلمين ﴾ [15].


إنه لشيء شديد الإبهار أن نراه يرحم ويبر ويعطف ويحنو على أولئك الذين عذبوه وعذبوا أصحابه، وعلى أولئك الذين مارسوا معه ومع المسلمين أشد أنواع القسوة والعنف!!

 

إن التاريخ الطويل من الصد عن سبيل الله، وفتنة المسلمين عن دينهم، لم يورث في قلب رسول الله شعورا بالانتقام، أو رغبة في الكيد أو التنكيل، إنما على العكس تماما وهذا هو الفارق الجلي بين أخلاق عامة البشر وأخلاق النبوة، إن رسولنا الكريم كان حريصا كل الحرص على إيصال دعوته إلى كل من هو على غير الإسلام وكان يبذل قصارى جهده في الإقناع بالتي هي أحسن، وكان يحزن حزنا شديدا إذا رفض إنسان أو قومٌ الإسلام،؛ فحملها إلى كل مشرك أو يهودي أو نصراني أو مجوسي، حتى وصل الأمر إلى أن الله عز وجل نهاه عن هذا الحزن والأسى قال تعالى يخاطبه لـــ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [16] ومع شدة هذا الحزن إلا أن الرسول لم يجعله مبررا للضغط على أحد ليقبل الإسلام إنما جعل الآية الكريمة ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ منهجا له في حياته، فتحقق في حياته التوازن الرائع المعجز؛ إذ إنه يدعو إلى الحق الذي معه بكل قوة، ولكنه لا يدفع أحدا إليه مكرها أبدا.. وسبحان الذي رزقه هذا الكمال في الأخلاق!

 

حلم النبي صلى الله عليه وسلم:

ما أسمى صفة الحلم وأحبها إلى القلوب! وكم هي عظيمة هذه الصفة حتى جعلها الله عزوجل من علامات النبوة وبراهينها وما أروع الموقف الذي يتجلى فيه حلم النبوة فيهتديبه العقلاء إلى دين الله هداية قناعة ويقين ومحبة.


لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الحلم، لأن الله تعالى أدبه فأحسن تأديبه، فكان القدوة في سعة الصدر وسماحة النفس التي تليق بمكانته ورسالته، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب دعوة جديدة يعاندها أكثر النـاس، وفيهم الأقوياء والضعفاء، والحمقى والعقلاء، والأقارب والبعداء، وفيهم الذين يسـألون أو يجـادلون ليتبينوا، والذين لا يريدون من الجدال إلا العناد، والحلم في كل حال من هذه الحالات هو القوة النفسية التي لا تغنى قوة غناءها، وحلمه صلى الله عليه وسلم أوسع من أن يحـاط بجوانبه، فلولا هذا الحلم ما استطاع أن يسـوس شـعباً كالعرب، يأنف أن يطيع أو ينصاع. وهناك كثير من المواقف التاريخية التي تؤكد أن المصطفي صلى الله عليه وسلم كان حليما في معاملاته مع الناس حتى ولو كانوا أعداؤه، فقد روى أن أحد علماء أهل الكتاب من اليهود[17] قال: لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمراً معلوماً إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته، فأخذت بمجامع قميصه ورداؤه، ونظرت غليه بوجه غليظ، فقلت يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فو الله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر بن الخطاب أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ فو الله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، وتبسم، ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة[18]، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً، مكان ما روعته، ففعل عمر رضي الله تعالى عنه فقال العالم لعمر: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين، لم أخبرهما منه بسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً[19].


أن مبدأ الحلم هو أحد المبادئ التي تعامل بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وأصحابه على السواء، فكسب الكثير من القلوب فأحاطت به ولم تكن ترضى أن يصاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمكروه حيا أو ميتا فقد أشرقت قلوبهم بنور الإيمان وساروا وراء صاحب الخلق العظيم الذي يسبق حلمه غضبه ولاتزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً وأدركوا معنى قول الله تعالى يخاطب نبيه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[20].

ما أحوجنا إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق الكريم، والطبع النبيل.

 

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم:

الشجاعة من أكرم الخصال التي يتصف بها الرجال، فهي عنوان القوة، وعليها مدار إعزاز الأمة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فالشجاعة صفة لا يتحلى بها إلا الأقوياء الذين لا يأبهون الخوف، ولا يجعلون الخور والضعف ديدنهم.


ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، بل كان المثل الأعلى في الشجاعة، فقد فرت منه جيوش الأعداء وقادة الكفر في كثير من المواجهات الحاسمة، بل كان يتصدر صلى الله عليه وسلم المواقف والمصاعب بقلب ثابت وإيمان راسخ، كان شجاعاً في جهره بالحق، وفي دفاعه عن العقيدة، مهما تكن عاقبة الشجاعة، كل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله، وحماية الإسلام من عدوان المشركين، وتحرير الناس من أغلال الوثنية وإرهاق الاستعباد، ومخازي العقائد والنظم ومفاسـد الأخـلاق، لتحل محلها أسمى عقيدة، وأصلح نظام، فعندما ضاقت قريش بدعوته إلى الإسلام، وبتسفيه أحلامها، وعيب آلهتها، مشوا إلى عمه أبى طالب وقالوا له: إن لك سناً وشرفاً ومنزلة، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. فعظم أبو طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بخذلان ابن أخيه، فقال لمحمد: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علىّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه تخلى عنه وأنه خاذله، وأنه قد ضعف عن نصرته فقال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"[21]. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، إذا حمي الوطيس واشتد البأس يحتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول علي رضي الله عنه: " كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه [22].


إن قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، لم تكن في غير محلها، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل"[23].


لقد كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، ومحط النظر، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، رحيم رفيق في موطن الرفق، فصلوات ربي وسلامه عليه.

 

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:

خلق التواضع من الأخلاق التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم، فقد كان تواضع النبي صلى الله عليه وسلم مضرب الأمثال في التاريخ كله، لدرجة أنه لم يدع لمتواضع قولاً، ولم يترك لمتكبر حجة.، فكان خافض الجناح للكبير والصغير، والقريب والبعيد، والأهل والأصحاب، والرجل والمرأة، والصبي والصغير، والعبد والجارية، والمسلم وغير المسلم، فالكل في نظره سواء، لا فضل لأحد على آخر إلا بالعمل الصالح يقول عبد الله بن مسعود: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله: لو أخذنا لك وطاء[24]؟ فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها[25].


وسُئلت السيدة عائشة رضى الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعنى خدمه أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة[26].


سئل أنس بن مالك عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويجلس على الأرض، ويعتقل[27] العنز، ويحلبها، ويأكل على الأرض ويقول: إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد[28].


ومن أبرز مظاهر تواضعه صلى الله عليه وسلم ما نجده في تعامله مع الضعاف من الناس وأصحاب الحاجات؛ كالنساء، والصبيان. فلم يكن يرى عيبًا في نفسه أن يمشي مع العبد، والأرملة، والمسكين، يواسيهم ويساعدهم في قضاء حوائجهم. بل فوق هذا، كان عليه الصلاة والسلام إذا مر على الصبيان والصغار سلم عليهم، وداعبهم بكلمة طيبة، أو لاطفهم بلمسة حانية. تلك صور من تواضعه عليه الصلاة والسلام، وأين هي مما يصوره به اليوم أعداؤه، والمبغضون لهديه، والحاقدون على شريعته؛ ثم أين نحن المسلمين من التخلق بخلق التواضع، الذي جسده نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته خير تجسيد، وقام به خير قيام؟!


هذه نبذة يسيرة، وقطرة من بحر، عرضتها على القارئ ليرى من خلالها أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلمس السبب الذي جعل الناس يلتفون حوله، ويتمسكون به، ويغارون عليه، ويستوحون منه الحكمة، ويستلهمون من تعاليمه الهداية والرشاد، ويغترفون من ينابيعه العذبة رحيق السماء.


وليس لكاتب أو محقق أو مؤرخ أن يحيط بشمائل المصطفي صلى الله عليه وسلم، أو بزاوية من زواياً خصاله الفاضلة الطاهرة.

وأعتقد أن البشرية كلها لو اتخذت من الذهب أقلاما، ومن المسك مداداً، ومن الكافور أوراقاً، ومن اللآلئ ألفاظاً، لما استطعنا أن نعدد مآثره الشريفة، أو نحصي أمجاده العريقة، فصدق الله العظيم إذ يقول ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [29].


تعليقات

إرسال تعليق